فن وثقافة

**طه حسين** الجسر المهجور**


**كتب/مصطقي أحمد عبد العزيز**
” لطالما أعجبت وانبهرت به ، وسبَّحتُ الله عندما تأتي سيرته ، وسألت له الرحمة عندما يُثار الجدل الدائم حوله ….
قرأتُ كتابه ( الأيام ) الذي مات رحمه الله قبل أن ينتهي منه ، ووجدت فيه سحرا ولذة لم أجدهما في غيره إلى الآن ، وجدت ألوانا من الأدب والوصف والبلاغة وحسن الصياغة والتعبير فضلا عما فيه من وقائع وأسانيد تاريخية يستطيع أي باحث أن يرتكز عليها كمرجع هام لإحدى الحقب في تاريخ مصر الحديث وربما أهمها وأكثرها تأثيرا وأدومها أثرا ..
هذه الحقبة التي تمخضت عن كثير من النوابغ والأفذاذ وكانوا ( عظماء مصر ) في كل المجالات ولا زالوا كذلك ولم يأت وربما لن يأتي مثلهم مرة أخرى ، بدءا من علماء الدين وعلامات التنوير وكذلك الأدب والشعر ومرورا بالنقد والمسرح وتعريجا على فن التلاوة التي تنفرد به مصر حتى الآن ، وانتهاءا بالرسم والنحت والتلحين والغناء ، كانت هذه المرحلة هي مرحلة جني الثمار وموسم حصاد الثقافة في مصر ، نهضة ثقافية جاءت بعد كد وتعب وجاءت بعد كفاح هؤلاء في البحث والدراسة داخل مصر أو خارجها ونجحوا في نقل ثقافات متعددة من الغرب ومن ثم تمصيرها ، وبصرف النظر عن بعض سيئات تلك الثقافات الناتجة عن استخدام المصريين الخاطىء لها فقد أفادتنا كثيرا ، ومن مظاهر هذه الاستفادة هي النهضة الثقافية والفنية التي نتحدث عنها ونورد لها بطل حديثنا عميد الأدب العربي
( طه حسين ) ، ومن هؤلاء أيضا أمثال العقاد على صعيد الشعر و الفكر والنقد ، وتوفيق الحكيم على صعيد الأدب والمسرح ، ونجيب محفوظ على صعيد القصة الفلسفية ، وعبد الوهاب على صعيد الغناء والتلحين ، وغيرهم على كثير من الأصعدة قد استقوا جزءا كبيرا من ثقافتهم من الآداب والفنون الغربية علما بأنه قد نشأت أفكارهم وتأصلت مرجعياتهم على الآداب والفنون العربية القديمة ومن ثم أقام كل واحد منهم جسرا بين الثقافتين ، فعندما يُسأل العميد طه حسين عن نشأته ومرجعيته الأدبية والفكرية يحكي عن تعليمه في الجامع الأزهر ويشيد ببعض شيوخه ويخص بالذكر الشيخ ( سيد علي المرصفي ) أحد شيوخه في الأزهر ويشعر بالامتنان الشديد له لأنه قرأ لهم باقة من أمهات الكتب في الأدب العربي ويعدد منها طه حسين بعض الأسماء ويقول : ” قرأ لنا كتاب الحماسة ، وكتاب الكامل للمبرد ، وكتاب الأمالي لأبي العلي القالي ، وأن هذه الكتب وغيرها من كتب الأدب العربي التي قرأها اجتهادا كمؤلفات الجاحظ ؛ ( الحيوان ) و ( البيان والتبيين ) قد أثرت تأثيرا بالغا في حياته الفكرية والأدبية وأصبحت هي الأساس الذي بنى عليه فكره فيما بعد .. ” وأزيد أنا على قوله من حكاياته بأن القرآن الكريم كان أساسا لهذا الأساس فقد حفظه في كتّاب القرية منذ ( خشونة أظافره ) لا منذ نعومتها لأن طه حسين لم يعرف للنعومة طريقا منذ كان طفلا صغيرا فقد انفطرت حياته على البؤس والشقاء ومعاصرة الأوبئة والأمراض ومكابدة الفقر ومعالجة جهل وتأخر المجتمع المحيط به ، وتحمل غلظة أهله ، وقسوة معلميه وشيوخه التي لم تتفلت من ذاكرته طوال عمره ؛ فلم ينس أبدا شيخه الذي كان يقول له :
” سمَّع يا أعمى ” … ولم يكن هذا الشيخ يعرف أن هذا الأعمى سيجعل الله به نورا بين العرب والعجم نستضيء به حتى اليوم ..
فكان طه حسين أحد أهم الجسور الثقافية بين الآداب العربية والغربية والحديث عن إسهاماته في هذا الصدد وغيره يطول ، وهي إسهامات معلومة وواضحة لدى المثقفين في كل الأقطار العربية منها والغربية ، وكلٌّ يعرف له قدره حتى خصومه والمختلفين مع طريقته وفكره .. فعلى ما نشب بينه وبين العقاد من خلاف قد ذاع صيته وانكتم مضمونه إلا أن العقاد عندما سُئل عن رأيه في أدب طه حسين وعن أهمية إسهاماته قال – وقد استنطبت حديثي من مقولته –
: ” إن طه حسين أقام القنطرة الفكرية الناقصة أو المفقودة بين الأدب العربي القديم والأدب اليوناني والأدب الأوربي القديم وكذلك بين الآداب الحديثة منهم إلا أنه لم ينته من الحديثة بعد … ” ولا أدري ربما يكون في ذلك إلماح من العملاق ( العقاد ) إلى أزمة العميد ومحنته التي وقع فيها على أثر كتابه ( في الشعر الجاهلي ) الذي انتهج فيه مذهب ديكارت الحديث في البحث العلمي والتاريخي القائم على الشك والتحليل المنطقي ، وعلى حد تعبير الشيخ الدكتور ( سعيد الكملي ) فقيه المغرب ومُحدّثها عندما تعرض لذكر هذه القضية وقد شفاني حديثه عندما قال : ” عندما كتب طه حسين كتابه في الشعر الجاهلي قامت عليه قيامات وليست قيامة واحدة وقالوا إنه طعن في القرآن وقال فيه ما لا يصح ولكننا لم نجد هذا فيه وأنا بريء من هذا القول .. ” وقد وردت الكثير من الأقوال والنقاشات والمناظرات المؤيدة منها والمعارضة – ما لا يتسع المقام ولا الوقت لذكره تفصيلا – حول هذه القضية التي تثير الجدل حتى اليوم لكنني اكتفيت بذكر قول ( سعيد الكملي ) لا لأنه استمالني فقط بل لأنه شفاني كما قلت ووجدت فيه ضالتي والحمد لله بعد سهر طويل أنقب فيه عن هذه القضية ، وذلك لأن الآراء حول هذه القضية كانت محصورة بين فريقين اثنين ؛ الأول يدعي ( التنوير ) والآخر يدعي ( الأصولية ) لكن الشيخ سعيد الكملي لا ينتمي لهذا ولا لذاك وهو أصوليٌّ مُتنوّرٌ مالكي المذهب وشغوف بأدب العرب وأخبارهم وأنسابهم وأشعارهم وقد جمع الاضداد من صفات المتعاركين في هذه القضية ووجدته أهلا للرأي الجيد في هذه المسألة والسبب الأخير أنه من أحدث الآراء عهدا بعد مرور كل هذه الصراعات فربما يكون هو الرأي الأشمل الذي نظر إلى الميدان من قمة عالية ، حتى وإن أخطأ العميد وكَبَا كَبْوَتَهُ في هذا الأمر وسلّمنا أن الأصوليين لم يجيؤا على عقيدته بدَمٍ كَذِب فليس معنى ذلك أبدا أن نحكم على فكره وأدبه بالإعدام التاريخي ، وعلى طريقة العقاد إذا وضعنا طه حسين في الميزان سوف ترجح كفة حسناته في نظري ؛ يكفي أنه كافح كثيرا لنشر التعليم في مصر وتعرض للإيذاء المعنوي من القصر الملكي واتهموه بالشيوعية لأنه أراد مجانية التعليم الجامعي وقبل ذلك قد جعل قبوله لمنصب وزير المعارف مشروطا بصدور قرار مجانية التعليم الثانوي والفني وهو صاحب المقولة الخالدة بأن ” التعليم كالماء والهواء .. ” وقد حاربه القصر فكريا من أجل ذلك لأنهم كانوا يدركون جيدا أن انتشار التعليم في مصر سيؤدي للإطاحة بهم في يوم من الأيام .. وقد حدث .. وأمد الله في عمر طه حسين حتى عاصر هذا اليوم وعاصر سقوط الملكية وهو الذي أطلق على حركة الجيش ( ثورة ) وكان ذلك خلال أول مقال له عن هذه الأحداث من كتاب ( تراث الجمهورية ) الذي أصدرته الجريدة احتفاء بطه حسين ، من أجل هذه الحسنات وغيرها قلت في أول المقال أنني أسال الله الرحمة له كلما جاءت سيرتة وسيرة الجدل الدائم حوله ، فقد يكون هذا الجدل كما قال هو عنه نتيجة للخصومة السياسية بينه وبين الأزهر وبينه وبين القصر الملكي ولم تكن أبدا خصومة دينية ولا فكرية ، طه حسين ليس أول ولا آخر من أثار جدلا فكريا أو دينيا ولكنه الوحيد الذي وضعت الندبات على فكره وأثير الغبار حول جسره ، وأحيل بين كنوز فكره ومعرفته وبين كثير من الأجيال المفتقدة لعبور هذا الجسر لفهم ثقافة الغرب وفكرهم ولفهم من سواهم من الأمم ، …
انفضوا الغبار عن هذا الجسر وسيروا فوقه مطمئنين

طه حسين … الجسر المهجور ..
لا أقول يستحق منا تأييدا ولكن يستحق منا عدلا وإنصافا ..

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى