الأمثال القرءانية.. ودلالة الإنفاق في التنزيل الحكيم

كتب/ محمد حسان
من نافلة القول إن أفضل وسيلة لشرح وتوضيح الأفكار المجردة، للناس عامة وللذين لم يؤتوا حظا وافرا من الثقافة والمعرفة من العامة خاصة- التوضيح بالمثل، لكي يتضح كل مجرد أو عصي على الفهم. بل يكفي أن نلاحظ أن آيات التنزيل الحكيم، يرد فيها أكثر من مائة مثل قدمها الله سبحانه للناس لتوضيح مقاصده تبارك وتعالى.
وفي التنزيل الحكيم، تأتي آيات ثلاث لتوضح كيف أن الأمثال ترد في القرءان الكريم، لتوضيح هذه المقاصد الإلهية للناس. يقول سبحانه وتعالى: وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا.
ويقول سبحانه: وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ ويقول تعالى: وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَلَئِن جِئۡتَهُم بِـَٔايَةٖ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُبۡطِلُونَ.
ولنا أن نُلاحظ كيف ورد تعبير مِن كُلِّ مَثَلٖۚ في الآيات الثلاث، متلازمًا مع تعبير فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ، ليس للتأكيد على ورود الأمثال في القرءان الكريم؛ ولكن، وهذا هو الأهم، للتأكيد على ضرورة تدبر هذه الأمثال ومحاولة فهم لماذا ذكرت؛ خاصة أن ٱلۡقُرۡءَانِ ورد مُعرفا بال التعريف، ومسبوقا باسم الإشارة هَٰذَا. هذا، لعل الناس “لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ”، رغم أن الإنسان كَان أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا؛ وهذا، إضافة إلى أن هذه الأمثال هي لِلنَّاسِ بشكل عام، وليست لفئة محددة منهم، كالمسلمين أو المؤمنين أو الذين أوتوا الكتاب، إلخ.
ضمن الأمثال التي ورد ذكرها في التنزيل الحكيم، يأتي قوله سبحانه وتعالى: مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ وهنا، انتقال من حال الضوء والإضاءة إلى حال آخر، مختلف تماما، هو حال الظلام. ويأتي قوله سبحانه في ختام الآية الكريمة ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ، إشارة بالضمير هم إلى الناس وربط للمشبه بالمشبه به؛ أي إن الله تعالى أخذ ما وهبهم قبل ذلك، من قدرة على الإبصار. ومن ثم، تَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ.
أما الإنفاق كمثل تأتي آيات التنزيل الحكيم على ذكره، فهو يتعلق بالذين يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ، والهدف من هذا الإنفاق.. فإذا كان الإنفاق فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ، يأتي قوله عزَّ وجل: مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ أما إذا كان الإنفاق ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ، فيأتي قوله عزَّ من قائل: وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ.
ومن الواضح، في الآية الكريمة الأولى أنه إذا كان المال كله لله تعالى، كما في قوله سبحانه: وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وأن الإنسان قد استطاع الحصول عليه بالعمل والحركة والسعي؛ فإن القرءان الكريم يُخبرنا بأن الله تبارك وتعالى يحترم في الإنسان قانون النفعية، فيجعل المال الذي حصل عليه الإنسان ملكًا له.. يبقي سيف الحرب مسلطا على المنطقة.
وبالتالي، يكون الرد الإلهي على الإنفاق فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ مُضاعفا، بمعنى أنه طالما هذا الإنفاق فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ، فإن الله سبحانه سيرده مُضاعفا؛ ويكون المثال هنا، دالا.. فالحبة التي يزرعها الإنسان في الأرض، لا تُعطي له حبة واحدة، ولكن تُعطي حبات كثيرة؛ فإذا كان هذا هو حال الأرض التي خلقها الله تعالى، فما بالنا بالخالق الأعظم جل وعلا.
ومن الواضح أيضا في الآية الكريمة الثانية أن ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ في الإنفاق، يعني ويؤشر إلى أن يكون الإنفاق خارج دائرة الرياء، فيكون خالصا لله سبحانه؛ وهو ما يدل عليه التعبير القرءاني تَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ أي تثبيت أن الغاية من الإنفاق هي مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ.
فإذا كان ذلك كذلك، يكون هذا النوع الثاني من الإنفاق، أي الإنفاق لأجل ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ بل، ويكون مثل هذا الإنفاق كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ. وهنا، يكون المثل دال. فالجنة، هي المكان ذو الزرع الأخضر الكثيف، من جن أي ستر، بمعنى أن هذه الجنة تستر من يدخلها. ليس فقط، ولكن هذه الجنة بِرَبۡوَةٍ أي على أرض تتسم بالارتفاع. فماذا يفعل المطر بهذه الجنة، التي توجد على ربوة؟ بالتأكيد، يجعلها تأتي أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ من حيث إنها تختلف عن الأرض المُسطحة.
إلا أن هذا الإنفاق الإيماني، يختلف قطعًا عن إنفاق آخر مختلف.
يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗاۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٭ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ
في هذه الآية الكريمة تبيان لنوع آخر من الإنفاق، فهو ليس فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وهو ليس ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ؛ لأنه إنفاق يأتي من ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ. ويكون التقدير هنا، أن هؤلاء لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ؛ وأن مثل هذا الإنفاق مثل الريح المُهلكة للحرث، أي إن الكفر يكون هو السبب في إهلاك ما يُنفقون، أو تحديدا في إهلاك ثواب ما يُنفقون.
ولعل الأهم في الأمر، أن هذا الإنفاق إن كان المُنفق يرجو منه خيرًا، فإن كفره سيؤدي إلى إبطال آثار هذا الخير عليه، فيكون كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا، فأصابته ريح فَأَهۡلَكَتۡهُۚ. أما إذا كان الإنفاق في ما ظن المُنفق أنه خيرٌ، ولكنه ليس كذلك، مثل إنفاق الأموال في قتل المسلمين وتخريب ديارهم؛ فإن مثل هذا الإنفاق، بالطبع، لا يستعقب الثواب.
ويكون نظير هذه الآية الكريمة، قوله سبحانه وتعالى: وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا .. وقوله سبحانه: إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ”. وقوله تعالى: وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا .
وهكذا، يكون ذلك كله مجموع في قوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِين.