مقالات رئيس مجلس الإدارة

هؤلاء الكارهون لأنفسهم!


محمد حسان … يكتب
يبتسمون في الصباح ابتسامة مُتقنة، يتحدثون بثقة مدروسة، يُقدمون النصائح للآخرين عن حب الذات وقبول النفس، ويبدون كنماذج للاتزان النفسي والسلام الداخلي، لكنهم حين يخلون إلى أنفسهم، وحين تسكت الأصوات وتنطفئ الأضواء، يبدأ مسرح آخر لا يشهده أحد، محاكمة قاسية لا تعرف الرحمة، قاضٍ داخلي لا يتعب من إصدار الأحكام، ومتهم وحيد لا يجد من يدافع عنه، هو نفسه!
كره الذات فن أتقنه الكثيرون دون أن يحصلوا على شهادة فيه، يمارسونه بإتقان مذهل في خفاء تام، ينظرون في المرآة فلا يرون إلا العيوب، يراجعون يومهم فلا يتذكرون إلا الأخطاء، ويقارنون أنفسهم بالجميع فيخرجون خاسرين دائما، يُقزّمون كل إنجاز، وينسبون كل نجاح للحظ، ويشككون في كل مديح، ويحفرون كل نقد في الذاكرة بأحرف من نارملتهبة.
العجيب أن هؤلاء الذين يكرهون أنفسهم كثيرا ما يكونون الأكثر لطفاً مع الآخرين، فيغفرون للجميع إلا لأنفسهم، ويجدون الأعذار لكل البشر إلا لذواتهم، ويرون الجمال في كل شخص إلا في تفاصيلهم، كأن الرحمة التي يوزعونها على العالم تنفد قبل أن تصل إليهم، أو كأنهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم لا يستحقونها، وأنهم استثناء من قاعدة الرحمة الإنسانية! هؤلاء الكارهون لا تتوقف الأصوات في رؤوسهم أبداً، اصوات تقول لهم دائماً أنهم ليسوا بالمستوى المطلوب، مع قائمة لا تنتهي من النقائص التي تحوّل الحياة إلى سباق خاسر مع نسخة خيالية مثالية لن يصلوا إليها أبداً، فيضعون لأنفسهم معايير مستحيلة ثم يعاقبونها على الفشل في تحقيقها، ويطالبونها بالكمال ثم يحتقرونها على النقص!
هذا الكاره الصامت له طقوسه اليومية، تحديق طويل في المرآة بحثاً عن عيوب جديدة، مراجعة المواقف المحرجة التي حدثت قبل سنوات وكأنها حدثت بالأمس، تفكير مَرَضي في كل كلمة قيلت وكل تصرف صدر، والأخطر من كل ذلك، مقارنة ما يرونه من نقص في شخصياتهم بما يتوهمونه من كمال الآخرين، فيرون أخطاءهم بالمجهر وينظرون لإنجازات غيرهم بالمنظار، حتى يصبح كل إنسان حولهم بطلاً، إلا هم!
المؤلم أن كره الذات لا يبقى حبيساً في الداخل، بل يتسرب كالسم الزعاف إلى كل جوانب الحياة، فتراه مثلا يُفسد الكثير من العلاقات لأن من لا يحب نفسه لا يصدق أن أحداً يمكن أن يحبه، ويُعطل النجاح لأن من يكره نفسه يعتقد أنه لا يستحقه، ويمنع السعادة لأنها تبدو كخيانة لهذا الكره المقدس، وعندما يحاول أحدهم أن يُظهر لهم جمالهم، أو أن يذكّرهم بإنجازاتهم، تراهم يبتسمون ابتسامة مُجاملة، بينما يدوي في داخلهم صوت قوي يقول إن هذا الشخص لو عرف الحقيقة لغيّر رأيه، ويعتقدون أنهم يخدعون العالم بقناع الاتزان، وأن الناس لو عرفوا حقيقتهم لهربوا.
الغريب أن أسباب هذا الكره الذاتي قد تكون تافهة في نظر الآخرين، خطأ ارتُكب في الطفولة، أو كلمة جارحة قيلت في لحظة غضب، أو فشل في امتحان أو علاقة، لكن هذه البذور الصغيرة تنمو في تربة الصمت لتصبح أشجاراً ضخمة من كره الذات، تُظلل الحياة كلها بظلال ثقيلة.
أصعب ما في الأمر أن علاج كره الذات لا يأتي غالبا من الخارج مهما حاول الآخرون، فالمعركة داخلية بحتة، هي معركة بين صوت الناقد الداخلي الذي لا يكل ولا يمل، وبين همسة خفيفة تحاول أن تقول إن الحب حق لكل إنسان، وأن الغفران ليس رفاهية بل ضرورة، هي معركة طويلة وشاقة، لكن الانتصار فيها يبدأ بخطوة واحدة بسيطة، أن نتوقف عن نكون أسوأ عدو لأنفسنا،
أيها الشخص سواء كنت ذكرا أو أنثى، الكاره لنفسه، اعلم أن القسوة التي تمارسها على نفسك لن تجعلك بالضرورة إنسانا أفضل، وأن الكمال وهم لا يستحق كل هذا العذاب، وأن الخطأ جزء من الطبيعة البشرية وليس جريمة تستحق عقوبة أبدية، واعلم أن أصعب رحلة في الحياة ليست نحو النجاح أو الثروة، بل نحو التصالح مع الذات، نحو النظر في المرآة دون بحث محموم عن العيوب، نحو قبول أنك بشر،وأن هذا يكفي.
هؤلاء فى مسيس حاجة لمراجعة نفسية ووضعها تحت ميكروسكوب التطوير والرضا ومصادقة أصحاب القلوب الطيبة اللينة.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى