أخبار محلية

شهادة و عظة


**جريدة صوت الحياة**
منذ قرابة خمس سنوات تم ترشيحي للدراسة تبعاً لبرنامج تدريبي يضم بعض المتميزين من أئمة الأوقاف وباحثي الأزهر الشريف، تغيبت في أول محاضرة نظراً لظروف السفر، حضرت زميلتي ووافتني بالمختصر المفيد، فكان جل كلامها يتركز على مدى اتساع علم المحاضر و ذهولها من نباغته و شمولية معرفته حتى وصفته بأنه كـالموسوعة تسأله فيجيبك بالمصادر الموثوقة، بلغة خالية من الأخطاء النحوية، كان المحاضر الموسوعة هو د. أسامة الأزهري. أنهيت مكالمتي معها وأنا على يقين بأن هناك نوع من المبالغة تحدثت به ربما لأنها ليست معتادة على سماع دروس العلم.
لكني لا أنسى أبدا أول محاضرة جلست فيها أمام هذا العالم الجليل وكيف تغيرت نظرتي لكل شيء بعدها وهذا الأمر صعب يدركه جيدا من يقرأ كلامي ويعرف شخصيتي التي لا تداهن ولا تنافق أحد ولله الحمد والمنة.
استمرت المحاضرة لأكثر من ساعتين، لم أشعر بالملل.عبارات المحاضر عربية فصيحة جزلة فيها من السجع والشعر والنثر قطوف وألوان ،بلا أخطاء لغوية حسب علمي، استشهادات المحاضر طويلة متصلة مُسنَدة ، يُعرِّف بشخصيات المؤلفين وتواريخ ميلادهم ووفاتهم بلا تحضير مسبق.. سكون وأدب وصبر على سماع أسئلة الطلاب، ثم إجابات نموذجية، بالأدلة ومصادرها، يقول افتح كتاب كذا، باب كذا واقرأ.. نفتح ونقرأ.. لا تسمع سوى تمتمات خافته ب ما شاء الله، ذهلت، وكان هذا انطباعي بعد كل محاضرة للدكتور أسامة على مدار عشرة أشهر.
في حقيقة الأمر هذا الذهول لم يكن فقط نتيجة ما رأيت من السعة في مجالات متنوعة من لعلم والثقافة قلما تجتمع في عالم واحد، بل لأنني أدركت أن هناك نوع آخر من العلماء لم أره رغم وجوده، نوع لا يحدث ضجيج، لا يجيد اللطم.. يجيد العلم وحسب، ثم تساءلت لماذا لا ينتشر هذا النموذج من العلماء نموذج العالم الأمين،يشرح لك من بطون أمهات الكتب، يعرض المسائل بوضوح متبعًا لمنهج علمي معروف تبدو فيه المسألة كحبة جوز صلبة، يعلمك كيف تقطفها وتقشرها، ثم يدلك كيف تستخرج لُبها،بلا صريخ، بلا مزايدة.. بدون تهكم، برصانة عالم واثق يقف على أصلب أرض يمكن أن تطأها قدمك يومًا ما.
ما رأيته وتعلمته خلال تلك الفترة، غير مسار حياتي وتفكيري كليًا، بكل اقتناع و روية .. بلا خوف، بلا ازدراء لفكري إن كان مخالفًا في بعض المسائل،رأيت بعيني رجل دين وعلم لا يرهب الناس، يعمل بوصية سيدنا رسول الله ﷺ يسروا ولا تعسروا،، بأمانة علمية لا يشكك فيها إلا جاهل، أو مضل، أو لطّام على السوشيال ميديا هذا الذي يتجاهل مناظرات الرجل المفحمة مع إسلام البحيري ويتمسك بمسألة الإذن بالذكر التي لا يفهم معناها ولم يقرأ عنها حرفاً.. فقط يلطم بلا بحث بسيط.. وإن سأله أحدهم فيما ينكر لا يجيب.
لطَّامين السوشيال ميديا الذين يعلمون النوايا، ولولا أنهم يزعمون أنهم يخافون الله لقالوا أنهم يعلمون الغيب، يعكرون المزاج العام، بمجرد ذيوع صيت شخصية ما وتأثيرها في الناس، يهرعون للولوله صوفي، قبوري، مبتدع، احذروه، قاطعوه، لا تستمعوا له.
هكذا هم اللطامين، لا يحبون سوى لغة التحريم والمنع والإرهاب الفكري، بلا توضيح ولا تنقيح، بل أصبحوا يفعلون ذلك الآن بخفة دم وكوميكسات وتعليقات كانوا يسمونها منذ زمن قلة أو انعدام أدب.
لا مشكلة في الاختلاف بشرط ألا يجرمنك اختلافك مع أحد على أن تعطيه حقه ،أن تكون عادلاً، منصفًا، ورع القلب في المحبة والخصام.
اتفق أو اختلف، لكن لا تكن سفيهًا تنشر ما لا تعلم، وتتكلم فيما لا تفهم، تأخذ المسائل بسطحية وعجلة، وتزايد على من يفوقك في القراءة لا أقول في العلم.. فقط في القراءة!
لطامين السوشيال ميديا اتركوا اللطم قليلاً وافتحوا الكتب راقبوا الله في عقولكم وقلوبكم وأنفسكم فكلنا سنحاسب في يوم سيُسأل فيه الصادقين عن صدقهم نعم الصادق سوف يُسأل, فما بالكم باللّطام قليل العلم كثير الكلام !!


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى