حكم الإحتفال ببداية السنة الميلادية،الإفتاء تجيب

كتب : محمد حسان
حكم الاحتفال ببداية السنة الميلادية.
المشاركة الاجتماعية بين المسلمين وإخوانهم في الإنسانية من غير المسلمين في فرحتهم بأعيادهم ومناسباتهم تحمل في طيَّاتها قيمًا إسلامية، ومعاني راقية، وهي من الخلق المحمود الذي تقتضيه مكارم الأخلاق، ولا يخفى أنَّ الاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية مناسبة تتناولها مقاصد اجتماعية ودينية ووطنية؛ فإنَّ الناس يُودّعون عامًا ماضيًا ويستقبلون عامًا آتيًا؛ حسب التقويم الميلادي المؤرخ بميلاد سيدنا المسيح عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، والاختلاف في تحديد مولده عليه السلام لا ينافي صحة الاحتفال به؛ فإنَّ المقصود: إظهار الفرح بمضي عام وحلول عام جديد، وإحياء ذكرى المولد المعجز للسيد المسيح عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، مع ما في ذلك من إظهار التعايش والمواطنة وحسن المعاملة بين المسلمين وغيرهم من أبناء الوطن الواحد، ومن هنا كان للاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة عدة مقاصد، وكلها غير بعيد عن قوانين الشريعة وأحكامها.
حكم تهنئة المسيحيين بأعياد رأس السنة الميلادية
ولا يخفى أنَّ في التهنئة إظهارًا للسرور وإعلانًا له، وفي ذلك نوع من المشاركة في الاحتفال.
قد عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نسيج مجتمعي مختلف الديانات حياةً اجتماعيةً قوية، امتزجت فيها مظاهر الإحسان والتعاون، ومشاعر البر والمواساة، وحسن الصلة والضيافة، وعيادة المرضى، والمجاملة، والاحترام المتبادل، بالإضافة إلى إقرار الناس على مناسباتهم وأعيادهم؛ باعتبار ذلك من المشترك الإنساني .
حتى ورد عن بعض كبار الصحابة شهود الأعياد والاحتفالات المختلفة، وقبول الهدايا فيها، والتوسعة على مَنْ حولهم بتفريق بعض من هذه الهدايا، مستمتعين بمشاركة غيرهم في أجواء البهجة والسرور، والفرح بالمباحات التي يُثَاب الإنسان على النية الصالحة فيها، كالتمتع بالطيبات، والأكل من الأطعمة الـمُعَدَّة فيها، مستحسنين لها بلا أدنى حرج، كل ذلك في إطار الودّ والمحبة الذي هو خُلُقٌ إسلامي عظيم، ليبرزوا بقوة المعنى الحقيقي لمفهوم الأخوة الإنسانية، حيث يرتبط البشر من خلاله بعلاقة مميزة يكون قوامها الرحمة والإحسان والاحترام.
ولَمَّا هَمَّ الصحابة رضي الله عنهم بوضع تأريخ يؤرخون به الوقائع والأحداث عدوا ذلك من أحوال الاجتماع البشري، فنظروا إلى الحوادث الكبرى التي أثرت في تاريخ البشرية؛ كتأريخ الروم، وتأريخ الفرس، دون أن يلتفتوا إلى موافقة أصولها للعقيدة الإسلامية أو مخالفتها.
و بمناسبة النيروز، تؤكد على انفتاح الإسلام على الثقافات الأخرى والموروثات القومية في أبعادها الإيجابية، واقتران هذا العيد بالربيع والطبيعة، وتقاليده في التزاور، وتقديم الهدايا، وتنظيف الدور والمدن، وإشاعة المحبة والوئام والتسامح بين الناس، وكلها فِعَالٌ حسنة، وسلوك يتَّسِقُ مع المنهج الإسلامي .
لم يكن من شأن المسلمين أن يتقصَّدوا مخالفة أعراف الناس في البلدان التي دخلها الإسلام، وإنما سعوا إلى الجمع بين التعايش والاندماج مع أهل تلك البلاد، مع الحفاظ على الهوية الدينية.
بل لَمَّا كان الاعتدال الربيعي يوافق صوم المسيحيين، جرت عادة المصريين على أن يكون الاحتفال به فور انتهاء المسيحيين من صومهم؛ وذلك ترسيخًا لمعنًى مهم؛ يتلخص في أن هذه المناسبة إنما تكتمل فرحة الاحتفال بها بروح المجتمع الوطني ذي النسيج الواحد.
وهذا معنًى إنسانيٌّ راقٍ أفرزته التجربة المصرية في التعايش بين أصحاب الأديان والتأكيد على المشترك الإنساني الذي يقوي روابط التعارف والتواصل بين بني الإنسان، وهو لا يتناقض بحال مع الشرع، بل هو ترجمة للحضارة الإسلامية الراقية، وقِيَمِها النبيلة السمحة.
والأعياد أيام تُتَّخَذُ لإظهار السرور والفرحة، وللأعياد الدينية أبعاد اجتماعية واقتصادية نافعة، وتزداد فيها هذه الجوانب قوّةً كلما قويَتْ أواصر المجتمع، وتلاحمت روابطه، وتآخت طوائفه، وزاد المشترك بين أفراده وجماعاته، فيحصل التشارك المجتمعي بل الإنساني العام الذي يتناسى أصولها الدينية وفوارقها العقائدية، واختلافُ فتاوى العلماء في المشاركة في أعياد غير المسلمين راجع إلى أنَّ هذه الأعياد يتجاذبها البعدان الديني والاجتماعي قوةً وضعفًا؛ خاصة مع تزامن فتاواهم والحروب الصليبية، ومع غلبة الطابع الديني على النزاعات والحروب الدولية، ومع زيادة التعصب الديني وضعف المشاركة المجتمعية في كثير من الأحايين؛ مما قوَّى عند جماعة من الفقهاء حينذاك الأخذ بمسلك سد الذرائع؛ حفاظًا على تماسك الدولة الإسلامية أمام العدوان المتعصب الذي يلبس لباس الدين زورًا وبهتانًا، وهذا غير حاصلٍ في زماننا الآن.
ولذلك بنى المحققون من الفقهاء جواز مشاركة غير المسلمين في أعيادهم على تناسي الفوارق الدينية فيها، وعلى انعدام قصد التشبه بهم فيما خالف الإسلام من عقائدهم، وعلى غلبة المعنى الاجتماعي وقوة المشترك الإنساني في مظاهر الاحتفال، وعلى استغلال هذه المواسم في فعل الخير وصلة الأرحام والمنافع .
والاحتفالات بأعياد رأس السنة الميلادية قد اصطبغت بالصبغة الاجتماعية، وصارت مناسبة قومية، وتجلت فيها معاني تقوية الأواصر الإنسانية، وهي وإن ارتبطت بفكرة دينية في الأصل، إلا أنَّ المشاركة فيها لا تستلزم الإقرار بشيء من الخصوصيات الدينية التي قد لا توافق ثوابت العقيدة الإسلامية، مع مراعاة البُعْد عمَّا يحرِّمُهُ الشرع اتفاقًا أو تأباه الأخلاق الكريمة والأعراف السليمة.
ولذلك فإننا نقول للمسلم تَصَرَّفْ بعفويتك؛ فالإسلام يحب الأريحية والطباع الحسنة التي تُشعِر بها مَن حولك بالسعادة والتفاؤل والأمل والبر، وتَعَامَلْ مع مجتمعك بكل خُلُقٍ جميل، وشَارِكْ أصدقاءك وجيرانك في فرحتهم واحتفالاتهم، ولا تأبه بمن يسعى ليفسد في الأرض بقطع أواصر المحبة والتواصل بين بني البشر باسم الإسلام لابسًا ثوبَ تقوى مزيَّفٍ لِيَصِفَ لسانُهُ الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرام.
دار الإفتاء تهنئة إخواننا من المسيحيين بأعياد رأس السنة الميلادية ومبادلتهم الفرحة لا حرج فيها شرعًا.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال فإنَّ تهنئة إخواننا من المسيحيين بأعياد رأس السنة الميلادية ومبادلتهم الفرحة لا حرج فيها شرعًا، بل إنَّ ذلك من الإحسان المأمور به، ويُعَد ضمنَ مظاهره، وفيها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث عاش في نسيج مجتمعي مختلف الديانات حياة اجتماعية قوية امتزجت فيها مظاهر الإحسان والتعاون ومشاعر البر والمواساة وحسن الصلة، بالإضافة إلى إقرارهم على مناسباتهم وأعيادهم باعتبار ذلك من المشترك الإنساني على المستوى الثقافي والاجتماعي، وتبعه الصحابة الكرام رضي الله عنهم على ذلك.
كما أنَّ المشاركة الاجتماعية في هذه المناسبة بين المسلمين وإخوانهم من أبناء الوطن في احتفالاتهم بما تتضمنه من مظاهر، إنما تحمل في طياتها قيمًا إسلامية ومعاني راقية، وتكشف في الوقت ذاته فساد مناهج مَنْ يريد تعكير صفو العيش السِّلْمي، والتعاون المجتمعي، والبناء الحضاري بين نسيج الأمة المتماسك، تحت ستار الدين زورًا وبهتانًا؛ فالإسلام لم يأمر أبدًا بالانسلال من شركاء الوطن وإخوة الكفاح وأهل الجيرة أو عدائهم وبغضهم، بل أمر ببذل البِرِّ والإحسان إلى الجميع؛ امتثالًا واقتداء بصاحب الخُلُق العظيم، والهادي إلى صراط الله المستقيم، سيدنا محمد الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.