الحبيب في الشعر العربي القديم هو ذكرى وأمل إنه ماض ومستقبل. إنه الضائع والمرتجى

كتب/ محمد حسان
الحبيب في الشعر العربي القديم هو ذكرى وأمل إنه ماض ومستقبل. إنه الضائع والمرتجى
الحبيب في الشعر العربي القديم هو ذكرى وأمل في آن. إنه ماض ومستقبل. إنه الضائع والمرتجى. الحبيب هو ليلى التي أضاعها قيس، ولم ييأس من البحث عنها:
تذكرتُ ليلى والسنين الخواليا
وأيامَ لا نخشى على اللهْو ناهيا
وقد يجمع الله الشتيتيْن بعدما
يَظنان كل الظن أنْ لا تلاقِيا.
خطوة ناقصة
من المرجح أن ما قلْناه على شعرنا القديم يصحّ على كل شعر، بل على كل فن. من المرجح أن الفن ينبثق دائما من الخطى الناقصة. من المرجح أن كل عمل فنيّ ناجح هو تناغم مع خطوة ناقصة، هو ردْم لثغرة الندم التي تُحْدثها العبارة الآتية: لم يكن ينقصنا سوى خطوة. وهي العبارة التي أوردها نجيب محفوظ في حوار عابث بين عجوزيْن يستذكران ويبتسمان.
هذه العبارة وردت في كتاب لنجيب محفوظ، عنوانه أصداء السيرة الذاتية، وأظنّه كتابه الأخير. هذا الكتاب يضمّ مقطوعات قصيرة مكثفة، تُقارب الشعر في مراميها وإيحاءاتها.
والمقطوعة التي تحتوي على العبارة الآنفة الذكر تحمل عنوان النهر، وهذا نصها: في دوامة الحياة المتدفقة، جمعَنا مكان عام في أحد المواسم. مَن تلك العجوز التي ترنو بنظرة باسمة لعل الدنيا استقبلتْنا في زمن متقارب واتسعت ابتسامتها، فابتسمتُ رادّا التحية بمثلها. سألتْني: ألم تتذكر؟ فازدادت ابتسامتي اتساعا. قالت بجرأة لا تتأتى إلا للعجائز: كنتَ أوّل تجربة لي وأنت تلميذ وساد الصمت لحظة، ثم قالت: لم يكن ينقصنا إلا خطوة! وتساءلت مذهولا: أين ضاعت تلك الحياة الجميلة.
لقد اختار محفوظ لمقطوعته هذه عنوان النهر، وبدأها بالكلام على دوّامة الحياة المتدفقة. إذن، الزمن هو النهر المتدفق. ونحن، الأحياء، لا نملك إزاء تدفقه سوى العمل على إحسان التصرف، وعلى اغتنام الفرص المؤاتية، كي لا يجرفنا السيل ونستسلم له دون مقاومة أو تحايل أو تجنّب. فليس أقسى على المرء من أن يفقد التحكم بسيْره، من أن تقودَه خطاه بدلا من أن يقودَها. وكل خطوة ناقصة أو متعثرة من شأنها أن تُحْدث ثغرة يظل يرتع فيها الندم.
مواجهة مع الزمن
هكذا لا نستطيع الوقوف في وجه الزمن، ولا نستطيع أن نفعل شيئا حيال جريانه، ولا نستطيع القبض على بعض ما نعيشه من لحظاته الجميلة إلا في ذاكراتنا المثقوبة. بلى، ربما نستطيع أحيانا القبض على بعض تلك اللحظات، إذْ نأسر ظلالا لها في أشعارنا، وإنْ ظلت محاولاتنا هذه مَشوبة بالتلهف أو الحسرة أو الندم. فكل سرور ناقصٌ إزاء جموح الزمان، كما يقول المتنبي:
جمَحَ الزمانُ فلا لذيذٌ خالصٌ.
مما يشوبُ ولا سرورٌ كاملُ.
ولكنّ المتنبي عاند هذا الجموح في شعره، بل خاض مواجهة عبثية مع الزمن. وقد يكون من الممكن أن نميّز في هذه المواجهة بين ثلاث مراحل: الأولى إعلان الحرب على الزمن، والثانية محاولة التفاهم أو التحالف مع الزمن، والثالثة الرغبة في استخدام الزمن أو الاستفادة منه.